الاصلاح مفهوم شامل, يحتوي تقويم كل ما اعتراه الخلل والفساد في جميع جوانب الحياة, النفسية منها والمادية, الفردية منها والاجتماعية, ولم يكن هذا التقويم الذي يتغياه الاصلاح للحياة الانسانية إلا لإعادة الانسان الي مركزه الطبيعي في الكون والحياة, فهو وحده الذي تحمل أمانة التكاليف الدينية والأدبية, وهو وحده الذي استخلفه الله في أرضه الي آخر العطاء الالهي الذي منحه الله تعالي له, وفوق المنحة الالهية العظمي للانسان المتجلية في العقل أرسل له الرسل وأنزل عليهم الكتب, ليكون بذلك مجموعة من الضمانات التي تحرس سير الحياة الانسانية حتي تصل الي غايتها,
غير ان الانسان في بعض الاحيان قد يركن الي نفسه الضعيفة فيأتي من الأعمال مالا يرضي عنه الحق تبارك وتعالي, ولا ترضي عنه نفسه المطمئنة المؤمنة, فيكون والحالة هذه في حاجة الي من يذكره بموقفه هذا ليعود الي الطريق الصحيح, وهنا يأتي دور المصلحين علي جميع مستوياتهم ليقوموا بهذه المهمة العظيمة, ولا عبرة في هذا المقام بقول أولئك الذين يدعون العلم, فيزعمون أن الطبائع البشرية لا تقبل التحول من حال الي حال, وكأنهم بهذا القول القاصر قد تصوروا ان هداية الله سبحانه وتعالي غائبة, وأن قلوب عباده بين يديه يصرفها كيف يشاء.
لا بشيء من الجبرية كما قد يفهم من هذا الكلام, وإنما بقدر علمه سبحانه وتعالي باستعداد الانسان واستيعابه لمفهوم الهداية ومفهوم الضلال, ويؤكد هذا قوله تعالي...
يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين( سورة البقرة: آية26),
وفي هذا المقام يقول حجة الاسلام أبو حامد الغزالي: لو لم تكن الأخلاق قابلة للتعديل والتغيير لما كانت هناك فائدة من إرسال الرسل, ولبطلت الوصايا والتأديبات.
ـ إن الحياة الانسانية الداخلية أشبه ماتكون بمسرح تتجاذبه عوامل الخير وعوامل الشر, ومتي استعلي الجانب الأول علي الجانب الثاني, سعدت الحياة, ونمت وازدهرت, ولكن الطامة الكبري فيمن يطغي عنده الجانب الثاني علي الجانب الأولي, فيحيا حياة ذاتية أنانية مسرفة, فتعاني منه الحياة الانسانية معاناة لا تطاق, وقد نسي كل من يؤثر هذا النوع من السلوك انه كلما صعد في هذا المضمار درجة كان ذلك إيذانا بانهيار طريقه, هذا لأن الحياة الانسانية الشريفة النظيفة التي أرادها الله تعالي للانسان تأبي أن يستمر هذا النوع من السلوك الشاذ فيها,
فإذا انتهت قدرات الوعاظ والمرشدين والمصلحين من تقويم هذا المنهج الي منتهاها, فإن ذلك يكون إيذانا بتدخل المنهج الالهي الذي هو أحق المناهج في التعامل مع هذه الظاهرة, قال تعالي:
فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون
( سورة الاعراف: آية165)
والعبرة هنا لعموم اللفظ لا بخصوص السبب لمن وردت الآية بشأنهم, وترسم سورة العنكبوت مشهدا له دلالاته العميقة فيما نحن بصدده, حين تصور موكب الأنبياء عليهم السلام: نوح ـ إبراهيم ـ لوط, اسحق ـ يعقوب ـ شعيب ـ هود ـ صالح ـ موسي. وماذا قدم كل واحد منهم من عطاء بمدد من الله تعالي كي تظل الحياة الانسانية شريفة نظيفة, في مجال العقائد ـ التشريعات ـ الاخلاق ـ السلوك ـ المعاملات.
ـ ان الله سبحانه وتعالي يكون أشد فرحا بتوبة عبده من فرح انسان يسير في صحراء موحشة فصادفته شجرة فاستظل بها وربط دابته بجانبه, فلما استيقظ, لم يجدها فظن انه هالك لا محالة, فآثر ان ينام ثانية فإذا به عند الاستيقاظ في المرة الثانية يجدها بجواره, كما وردت بذلك بعض الآثار لتجسد العلاقة بين الحق سبحانه وتعالي من طرف وعبده التائب من طرف آخر, ثم إنه في النهاية لا خير فينا إن لم نقل كلمة الحق, لا خير فيهم إن لم يسمعوها, وقد قلناها فهل يسمعون ويعملون؟!