الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد
لماذا يبكى المولود حال خروجه إلي الدنيا؟
نخرج باكين من بطون أمهاتنا ، كارهين ما حل بنا ، خائفين من المنتظر ، نبكي رجاء عودتنا لجدران الحنان ... أحببنا أن نكون جزءًا من أجساد أمهاتنا ، فمن يفقد ما أحبه يبكي عليه ... لو كانت الحياة جميلة ، لما ولدنا ونحن نبكي ...
فالطفل يبكي ؛ لأنه أراد الحياة ... ولو لم يردها لما خرج من بطن أمه أصلاً... إنه يبكي ، ويذرف دموع الاشتياق لأمه ، ولحنانها المتدفق من حنايا روحها، رغم أنه لم يعرفها وجهًا؛ إنما عرفها بروحها ومشاعرها .
يقول ابن القيم رحمه الله (1): هناك سببان :
سبب أخبر به الصادق المصدوق ، لا يعرفه الأطباء ، و سبب ظاهر .
أما السبب الباطن :
فإن الله اقتضت حكمته أنه وكَل بكل واحد من ولد آدم شيطانًا ؛ فشيطان المولود ينتظر خروجه ليقارنه " يكون قرينه " ، ويتوكَّل به ، فإذا انفصل استقبله الشيطان ، وطعنه في خاصرته ،تحرُّقًا عليه وتغيُّظًا ، واستقبالاً له بالعداوة التي كانت بين الأبوين قديمًا ، فيبكي المولود من تلك الطعنة ...
وفي الصحيحين قوله صلي الله عليه وسلم
:« مامن مولود يولد إلا نخسه الشيطان ، فيستهل صارخًا من نخسه ، إلا ابن مريم وأمه » .
الحديث
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
( ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد ، فيستهل صارخا من مس الشيطان ، غير مريم وابنها )
. ثم يقول أبو هريرة : { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } .
الراوي: أبو هريرة المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 3431
خلاصة حكم المحدث: [صحيح]
والسبب الظاهر
الذي لا تخبر الرسل بأمثاله لرخصه عند الناس ومعرفتهم له من غيرهم ، وهو مفارقته المألوف والعادة التي كان فيها إلي أمر غريب ؛ فإنه ينتقل من جسم حار إلى هواء بارد ومكان لم يألفه ، فيستوحش من مفارقته وطنه ومألفه...
من كتاب ( التبيان ) لابن القيم .
يقول بروفيسور النساء والتوليد السعودي الدكتور عبد الله حسن باسلامة عن هذا الموضوع (2) :
«لم أر طفلاً أو طفلة خرجت إلى هذه الدنيا ضاحكة ، أو حتى مبتسمة ، مع إني كنت هناك عند خروج العديد من الأطفال ، فالكل يخرج من بطن أمه صامتًا لحظات ، ثم يصرخ ، أويبكي ، والذي لا يصرخ يكون عادة إما ميتًا ، أو في حالة إعياء ، أو صدمه من ضنك الحمل أوصعوبة الولادة » .
إذًا فكل قادم إلى هذه الدنيا يصرخ ، أو يبكي مع أنه كان الأولى به أن يضحك ويقهقة ،
أو حتى يبتسم ويبدى علامات الرضا ، لعدة أسباب أهمها:
أنه خرج من الظلمات إلى النور ، ومن ضيق الأرحام إلى رحابة الكون ،
ومن بحر من ( السوائل) كان يعيش في وسطها إلى الهواء الطلق ...
إلى الدفء النور ، إلى الشمس .
إنهاظاهرة عجيية ،
ولقد سألت العديد من الأخصائيين في طب النساء والتوليد من غير المسلمين،
فلم أجد عند أحد منهم التفسير العلمي المقنع ؛ وإنما هي مبررات .
أي : لا أحد يعلم : لماذايستهل المولود حياته في هذه الدنيا صارخًا ؟
ولقد كنت اعتقد أن كل طفل آدم وحواء ، منذ الأزل وإلى أن تقوم الساعة ،
يستهلون حياتهم في الدنيا صارخين ،
إلى أن عرفت من هدي النبوي الشريف ،
عرفت أن هناك اثنين فقط استهلا حياتهما دون صراخ ،
وهما ابنة عمران ، وابنها عيسى عليهما السلام، وعرفت سبب بكاء الطفل حين يولد .
إن بكاء الطفل من الناحية البيولوجية مفيد؛
لأنه يسمح للهواء بالدخول إلى الرئتين ،
ويمكن من انقباض وانبساط عضلة القلب ؛
إلا أن بعض الأطفال لا يبكون ،
وخوفًا عليهم من الاختناق لعدم التنفس ،
تعمد القابلة إلى إيلامهم بإبرة أو نحوها ، حتى يبكوا ويأخذوا الهواء ...
يقول ابن القيم فى كتابه (تحفة المودود بأحكام المولود ) :
ولما كان مفارقة كل معتاد ومألوف بالانتقال عنه شديدًا على من رامه ، ولا سيَّماإذا كان الانتقال دفعة واحدة ،
فالجنين عند مفارقته للرحم ينتقل عمَّا قد ألفه واعتاده في جميع أحواله دفعة واحدة ،
وشدة ذلك الانتقال عليه أكثر من شدة الانتقال بالتدريج ،
فالجنين ينتقل عما ألفه واعتاده في غذائه وتنفسه ومداخله وما يكتنفه وهلة واحدة .
وهذه أول شدة يلقاها في الدنيا ، ثم تتوافر عليها الشدائد حتى يكون آخرها الشدةالعظمى التي لا شدة فوقها ، أو الراحة العظمى التي لا تعب دونها ؛
ولذلك لا يبكي عند ورود هذه الشدة عليه مع ما يلقاه من وكز الشيطان وطعنه في خاصرته، فإذا انفصل الجنين بكى ساعة انفصاله لسبب طبيعي ، وهو مفارقة إلفه ومكانه الذيكان فيه ، وسبب منفصل عنه ، وهو طعن الشيطان في خاصرته ، فإذا انفصل وتم انفصاله مد يده إلى فيه ، فإذا تم له أربعون يومًا تجد له أمرًا آخر على نحو ما كان يتجدد له ، وهو في الرحم ، فيضحك عند الأربعين .
فسبحان الذي بيده كل شيء، يخرج المولود إلى حياتنا الدنيا باكيًا ؛ وكأنه يعلم مدى الشقاء والعناء الذى سيلاقيه فى هذه الدار ... وصدق الإمام الشافعيُّ :
ولدتك أمك يا بن آدم باكيـا *** والناس حولك يضحكون سـرورا
فاعمل ليوم أن تكون إذا بكوا *** فى يوم موتك ضاحكًا مســرورا