قررت ألاّ أنسى أن أكتب هذه المقالة ... قررت ألا أنضم لطابور طويل من المتشككين المحبوسين في وهم صورة نمطية عن الجيش يرفظون تغييرها ولا يقرأون وإن قرأوا لا يفهمون الآيات الدامغة أمام أعينهم اللتي تشهد بفساد تصورهم ...


اللحظة هي 28 يناير 2011 ... الشد والجذب بين المتظاهرين وقوات الأمن المركزي على أشده بعد إختراقنا لتحصيناتهم عند أول كبري قصر النيل من ناحية ميدان التحرير ... لن أنسى أنهم ضربونا بمدافع المياه ونحن نصلي ما حييت ... لن أنسى أن قائدهم ضربنا بالرصاص بمجرد أن إنتهت الصلاة ... كنت أتمنى أن أرى من الشرطة والأمن المركزي بهذا الدم الحامي على من سرقوا مصر بالمليارات كوزيرهم العادلي وكأحمد عز وككل وزراء الحكومة الفاسدين ... أو أراهم يطلقون النار على البلطجية اللذين إعتدوا على الأبرياء من أهل مصر اللذين بما في ذلك فتاة في سن الورود مثل "سالي زهران" وأناس كثيرين لم يشتركوا حتى في الثورة ... ولكنهم لم يطلقوا النار سوى على المتظاهرين ... فمهمتهم لم تكن أبدا حماية مصر ولا شعب مصر اللذي كان يموت على أيديهم ... مهمتهم هي حماية النظام ... ولا شيء غير النظام ... كان يقتلوننا بالرصاص ... والآن يقولون أنهم لم يفعلوا ذلك .. والرصاص الخارج من أجسادنا يشهد على كذبهم ... كانت هناك لحظة فقد فيها العديد من المتظاهرين الأمل في أننا سنبقى أحياء هذا اليوم ... كانت قوات الأمن المركزي تطاردنا في ميدان عبد المنعم رياض وتطبق علينا من كل جانب ... لاحت نهايتنا لنا أمام أعيننا ودعونا الله ان ينقذنا حتى نفي بوعود قطعناه لآهالينا بالعودة لهم ... فجأة لاحت في ميدان عبد المنعم رياض مدرعة من مدرعات الجيش المصري ... كنت ضابط في الجيش يوما ما ... أدركت على الفور أن هذه الآلية لا تستخدمها الشرطة، هي مدرعة مصرية الصنع من طراز "الوليد" وجنودها بوضوح من الشرطة العسكرية (يرتدون البريهات الحمراء) ... لم أكن وحدي من أدرك ذلك ... صرخ أحد المتظاهرين "الجيش!!!" ... فهرع االجميع نحو المدرعة وإختبأوا خلفها من إطلاق النار ... وبمجرد أن رأت قوة الأمن المركزي اللتي كانت تطاردنا مدرعة الجيش تراجعت بدون أدنى محاولة للإقتراب ... لا نعرف لماذا وثقنا في الجيش ... ربما لأننا لم نسمع أنه يوما أطلق رصاصة على مواطن مصري ... ربما لأننا لم نسمع أنه يوما ما عذب مواطن مصري ... ربما لأننا جميعا أو أغلبنا أدى خدمة الوطن - الخدمة العسكرية - في الجيش يوما ما ... نحن نعرفهم ... ونحس في قرارتنا أننا منهم وهم منا ... ونعرف جيدا لأننا كنا منهم أنهم يحمون مصر كلها ... بأغنيائها وفقرائها بريفها ومدنها بمسلميها ومسيحييها ... وليس النظام فقط ...


صلات الجندي مع المواطن ... من يصلي معك ... لا يقتلك ...

خرج ضابط الشرطة العسكرية من سطح المدرعة ... كان برتبة رائد ونظر لنا بكل حزم وقال كلمة واحدة "ماتخفوش" وظل واقفا في مكانه مظهرا نفسه وزيه وناظرا لجنود الأمن المركزي ... بدأت مدرعات الجيش تتوافد على ميدان عبد المنعم رياض تباعا والأمن المركزي ينسحب من امامها ... حتى إختفى تماما... إندفعنا جميعا مرحبين بالجيش ... تركونا نصعد على مدرعاتهم ... بادلونا بعفوية الأحضان والسلام ... رأى الجنود العديدين منا مجروحين وغارقين في دمائنا فما كان منهم سوى أن أحضروا من داخل مدرعاتهم لفائف طبية ومواد مطهرة وأعطوها للمتظاهرين حتى يضمدوا جراحهم ... كل من معه علم أو شال فلسطيني أعطاهم إياه فقبلوا الهدية ممتنين ... دوّى في الأجواء آذان المغرب ... فشرع المتظاهرين في تنظيم صفوف الصلاة بعد أن أحسوا بالأمان والإطمئنان ... وإذ ببعض الجنود ينزلون من مدرعاتهم ويصلون معنا ... وما أن إنتهت الصلاة وسلمت على من بجواري حتى رأيته يبكي ... فسئلته ما باله فقال لي بكل بساطة "من يصلي معك ... لا يقتلك .. أقول لك من الآن ... لقد إنتصرنا ..." ... وصدقت نبوئته وقد كان ...




يوما ما ستكون جنديا ... يوم ما ستكون مصريا ...

لم يفهم البعض للوهلة الأولى أن "الشرطة العسكرية" شيء مختلف عن "الشرطة" اللتي تطاردنا ... هاجموا سيارة جيب ومدرعة تابعتان للشرطة العسكرية ... أحرقاهما عن سوء فهم ... كان يمكن للجيش أن يطلق النار ويقتل من يشاء عند هذه النقطة ولن يلومه أحد ... رأيت ضباط شرطة "يمرمطون" ويهينون ويضربون رجالا محترمين لأسباب أتفه من شيء كهذا بكثير ... لكن قائد كتيبة الشرطة العسكرية (ضابط برتبة عقيد) جاء بنفسه وهو غامد مسدسه وطلب من المتظاهرين أن يفهموا الفرق بين الشرطة العسكرية اللتي هي جزء من الجيش والشرطة العادية اللتي هي جزء من الداخلية وأنه يتفهم غضب الناس ولكن يطلب منهم أن يسيطروا على مشاعرهم حتى لا يختلط الحابل بالنابل ... تمر الأيام ويبدأ الجيش في تولي مسئولية كل من تخلوا عن مسئولياتهم ... تولى مسئولية الأمن بعد أن تخلت الشرطة عنها .. أقفلت محطات البنزين أبوابها خوفا من السرقة فلم يبقى سوى محطات القوات المسلحة (المعروفة بإسم "وطنية") تقدم هذه الخدمة في مصر بأكملها ... قلت مياه الشرب في العديد من الأماكن فشرع الجيش في توفيرها للناس ... كان الشعب حاضرا يتابع مليا ويفهم الرسالة ... يراقب السلوك النبيل لهذه المؤسسة اللتي حاول الكثيرين من فلول النظام السابق تشويه صورتها ... تارة بأن يضغطوا على مبارك ليجبر الجيش على سحب قواته اللتي تحمي ميدان التحرير فيطلقون على المتظاهرين البلطجية والجمال والخيول فنتصور ان الجيش يشارك النظام في المذبحة ... وتارة يعطون الشرطة العسكرية (اللتي تولت دور أمن الدولة والشرطة والأمن المركزي) معلومات مغلوطة عن "مؤامرة أجنبية" و"جواسيس" و"عملاء" و"أجندات" فيقبض على أناس ابرياء ويفرج عنهم كما حدث مع العديد من النشطاء بمجرد تبين زيف المعلومات ...



نحن معكم ...

لم يهن الجيش أي شخص إضطر لإعتقاله ... لم يعذب أحد ... قدم كل ما في إستطاعته لحماية الناس حتى صرنا نرى الناس في ميدان التحرير يطلبون من الجنود حمل أبنائهم كتأكيد على الثقة المتبادلة والإحترام والتقدير لنبل هؤلاء الجنود ... صرنا نرى الناس يأخذون الصور معهم .. ليس فقط مع الجنود وإنما حتى مع الضباط ... رأيت لواءات يقبلون رؤوس الغاضبين على النظام من المتظاهرين ويقولون لهم "نحن معكم" ... أدركت كم الضغط الهائل على الجيش من النظام ليفرق هذه الثورة ولو بدهسها بجنازير الدبابات ... ولكنهم أبوا ... ورفضوا ... كان يعلمون انهم سيقفون أمام الله ... وأنه أوامر المخلوق لن تشفع لهم عند معصية الخالق ... حتى الحرس الجمهوري ... الأشد ولاءا للرئيس ... أدركوا أنهم في النهاية جنودا يلبسون البلدة العسكرية اللتي يلبسها زملائهم في كل الأفرع الأخرى واللتي تعني نفس القيم ونفس الخطوط الحمراء ... الجيش لا يطلق النار على الشعب ... ولا حتى الحرس الجمهوري ... ولا حتى عندما ذهب المتظاهرون أمام القصر الجمهوري ويقفوا أمام حواجز الحرس نفسه ... لم ولن يطلقوا النار ...




لا تبكي ... إن الله معنا ...

لم يتعلم النظام شيئا ... حتى من الحروب اللتي خاضها وإنتصر فيها .... إسرائيل في 1973 غلبها غرورها وغطرستها ... تحرك جيش قوامه 400000 ألف جندي بدباباتهم ومدافعهم وعرباتهم ومدرعاتهم أمامها وتحت أعينها وعلى مرمى ومسمع من بصرها وسمعها ... ولم تدرك أن الحرب قادمة لأن غرورها وجبروتها أعماها ... مبارك كان موجود آن ذاك ... ولكنه لم يفهم ... ولم يتعلم .... العام الماضي سخر جمال إبنه من شاب في مؤتمر الحزب الوطني حذره مما يحدث على الـ Facebook ... ضحك ولم يرد عليه حتى ... كان من الممكن أن يدرك مبارك أن الهدف من إنزال الجيش إلى الشارع سيحقق نتيجة عكسية ولكن غروره وغطرسته منعاه من أن يرى الحقيقة ... ... كان المقصود بإنزال الجيش إلى الشوارع إرهاب الناس ... إن لم تخافوا من عصي وبنادق الأمن المركزي سنرسل لكم من هم مسلحون بالرشاشات والمدافع ... من يستطيعون سحقكم تحت جنازير آلياتهم ...

قلب الجيش مع الشعب ... تعليماته فقط هي ما يربطه بالنظام ...


ولكن النظام اللذي لم يقرأ ولم يفهم التاريخ ليس كشعبه اللذي يعلم جيدا ولم ينسى أن الجيش من المؤسسات اللتي ثارت يوما مل ضد الفساد في مصر ... تماما مثل الشعب ... أن الجيش وجنوده وضباطه يعانون من نفس مشاكل الشعب ... أن الجيش ليس مؤسسة لحماية النظام كالشرطة والأمن المركزي وأمن الدولة بل هو مؤسسة تحمي مصر كلها وليس فقط حكامها ... الشعب يدرك هذا جيدا ... فلم يخف بل ورحب بالجنود وصار الجيش بقرار من النظام ملتحما مع الشعب يعيش بينهم كل يوم ... يرى صلاتهم ويشارك فيها، يرى مظاهرتهم ويشارك فيها، يرى دموعهم ويشارك فيها ... والنظام متحصن ومنعزل عن الكل في قصوره يتصور أن الجيش معه وليس مع الناس مع أنه لو نظر من شباكه سيرى الناس فوق دبابات الجيش ملتحمين بالجنود ...



المتحدث الرسمي للقوات المسلحة يؤدي التحية العسكرية لشهداء الثورة ...

إنتصر الشعب ... أسدل الستار على حكم مبارك ... أعلنها نائب الرئيس في جملة مقتضبة ... كما لو كان غضبنا وثورتنا وشهدائنا لا يعنون له شيء ... ولكنني ما حييت لن أنسى مشهد المتحدث الرسمي للقوات المسلحة وهو يرجع خطوة للخلف ويؤدي التحية العسكرية بمجرد ذكر كلمة "الشهداء" ... أنصفهم الجيش ولم ينصفهم النظام ... بل قتلهم النظام وحال الجيش بينه وبين قتل المزيد ... وإنظم النظام لقائمة من يقوم الجيش بدورهم ... فأثبت في الأيام القليلة الماضية أنه أهل لثقة الشعب وإحترامه وتقديره ... أعلن من أول يوم إحترامه لثورة شعب مصر العظيم ... وأعلن انه ليس بديلا للشرعية اللتي يرتضيها الشعب .. أوقف العمل بالدستور اللذي خرّبه النظام، حل مجلسي الشعب والشورى المزورين، أعاد النظام والإنتظام للبلاد، وأصدر اوامره بمنع سفر اللصوص وتجميد أرصدتهم ... يسابق الزمن حتى يحقق مطالب الشعب ويحاول أيضا أن يكون مرشدا وناصحا لشباب الثورة لما فيه مصلحة الوطن والجميع ...


هذه الثورة تدين للقوات المسلحة بالفضل بنفس القدر اللذي تدين به لشهدائها ... فمن منع الموت عن الناس لا تقل مساهمته عمن مات من أجل الناس ... نبل وشرف القوات المسلحة المصرية كانا من الأشياء الفارقة في هذه الثورة اللتي لن ينساها أبدا الشعب المصري لهذه المؤسسة العريقة والوطنية اللتي أرجوا من الجميع أن يثقوا فيها ويتعاونوا معها وأن يسهلوا عليها مهمتها لنتجاوز معا هذه المرحلة الدقيقة من تاريخنا ...

... سلام من قلب مصر للضمائر اللتي تحرس أرضها ومستقبلها ... سلام شرف وتقدير للجنود


منقول عن مقال ل
أسامة حجي

16 فبراير 2011